فصل: (9) دليل في تاريخ الوحي على وحدانية المبدع القدير:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.(7) عمر الكون وامتداده:

في سياق الإنذار بدمار الأرض وهلاك أهلها كذلك مع تقارب أطراف الكون وإن بدا حده بعيدا وردت نفس القيم في قياس أكبر يُمكن حمله على أقصى بعد؛ يقول تعالى: {سَأَلَ سَائلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ لّلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ مّنَ اللّهِ ذِي الْمَعَارِجِ تَعْرُجُ الْمَلاَئِكَةُ وَالرّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا إِنّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا وَنَرَاهُ قَرِيبًا يَوْمَ تَكُونُ السّمَاءُ كَالْمُهْلِ وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ وَلاَ يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيما} المعارج 1- 10، والْمَعَارِجِ جمع لاسم المكان مَعْرَج كأدق وصف للآفاق الممتدة حيث تسري القوى بانحناء كمشية الأعرج، والاكتشاف بأن مسارات القوى منحنية دفع الفيزيائيين لإطلاق تعبير الكون المنحني Curved Universe، وفي اللغة: تعارج حاكى مشية الأعرج وعرَّجه ميَّله وتعرَّج مال والتعاريج المنحنيات والعرجون العذق المعوج، والملائكة والروح رسل هداية لا تنقطع عن الإبلاغ إلى أن يعود كل شيء إلى الله لا سواه بيانا لوحدانيته تعالى وتفرده، وهم حضور في قياس مسافة لا يقطعها جسم مادي محدود السرعة في كون متغير الأبعاد مما يعني أنه عامر بالساجدين، قال جوهري: أخذ يستأنف مبينا ارتفاع تلك الدرجات.. فليس المراد المدة بل بعد المدى.. وقدم الملائكة لأنهم في عالم الأرواح العالم المبرأ عن المادة لأنه لا يُرتقى إلى تلك المعارج إلا بالكشف العلمي أو الخروج عن عالم المادة، وقال البيضاوي: استئناف لبيان ارتفاع تلك المعارج وبعد مداها، وقال البغوي: المسافة من الأرض إلى منتهى السماء يعني إلى منتهى أمر الله تعالى.
وقال الألوسي: الكلام بيان لغاية ارتفاع تلك المعارج وبعد مداها.. والمراد أنها في غاية البعد والارتفاع.. والعروج في الدنيا.. روِي هذا.
عن ابن إسحاق ومنذر بن سعيد ومجاهد وجماعة، وهو رواية عن ابن عباس أيضا.
وتُقاس الأبعاد فلكيا بوحدة الزمن المناسبة وأقصى سرعة، فنقول يبعد القمر حوالي ثانية ضوئية وتبعد الشمس ثمان دقائق ويبعد أقرب نجم 4.3 سنة، فإذا كانت القيمة ألف سنة في يوم تعبيرًا عن أقصى سرعة تكون القيمة خَمْسِينَ في السياق تعدادا لأقصى وحدة زمن، وأكبر وحدة زمن فلكيا هي سنة الشمس وهي مدة دورتها حول مركز المجرة وقيمتها حوالي 250 مليون سنة، ولكي يقطع شعاع من الضوء المسافة إلى طرف الكون الممكن الرصد يحتاج إلى عمر الكون، والعجيب أن القيمة خَمْسِينَ في مقام بيان أكبر وحدة زمن في عالمنا لقياس أكبر مسافة ممكنة الرصد بأقصى سرعة في الكون وهي ألف سنة في يوم تحقق تماما نفس القيمة المعلومة الآن لعمر الكون حتى الآن 50× 250 مليون وهي حوالي: 12.5 10- 15 بليون سنة.

.(8) حركة الأرض وكافة النجوم والتوابع:

التعبير {مما تعدون} يجعل قيم حركة المقياس أساسية فيقيم علاقة ثابتة في نظام معزول عن التأثير الخارجي مثل كافة قوانين حركة الأجسام، وهو يفيد معنى الظن غير المطابق للحقيقة فيدل بمعناه على حركة الأرض حول الشمس وحركة النجوم الثوابت بخلاف ما يعدون، قال جوهري: أرضنا إذن دائرة غير دائرة نحن نراها ساكنة ولكنها دائرة لا تهدأ، ومن جملة سيارات شمسنا هذه الأرض التي نحن عليها والقمر ملتزم بها ويدور عليها ومعها على الشمس، إذن: دوران الأرض حول الشمس ليس غير مخالف للقرآن فحسب بل له منه دلائل، وقال الألوسي: فيه دليل على أن الشمس متحركة.. على مركز آخر كما تتحرك الأرض عليها، وأن: للثوابت حركة، وفي قوله تعالى: {لاَ الشّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تدْرِكَ القَمَرَ وَلاَ الْلّيْلُ سَابِقُ النّهَارِ وَكُلّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} يس 40؛ قال القاسمي: التنوين في لفظ كُلٌّ عوض عن الإضافة للأجرام والمعنى كل واحد من أجرام السماء كالشمس والقمر في فلك خاص به يسبح بذاته، وقال ابن عاشور: المراد تعميم هذا الحكم للشمس والقمر وجميع الأجرام وهي حقيقة علمية سبق بها القرآن، وكل البشر يعاينون آيات السماوات كالشمس والقمر تمر عليهم، ولكن القرآن يجعل سكون الأرض نسبي دالا على حركتيها اليومية والسنوية بتقريره أنهم هم الذين يَمُرّونَ على آيات السماوات وهم على ظهرها كما يمرون على آيات الأرض وهم على ظهر المركوبات السيارة ولا يعتبرون، يقول تعالى: {وَكَأَيّن مّن آيَةٍ فِي السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ يَمُرّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ} يوسف 105.

.(9) دليل في تاريخ الوحي على وحدانية المبدع القدير:

في تاريخ الوحي ما يؤيد أن تعبير يوما واحدا عند الرب كألف سنة يعني: سرعة مجيء يوم الرب 2 بطرس 3: 2- 14، وهي أقصى سرعة في الكون كله حيث يقع الهلاك بغتة لا يسبقه نذير؛ ولذا وفق تعبير الكتاب: سيأتي كلص في الليل يوم الرب الذي فيه تزول السماوات بضجيج وتنحل العناصر محترقة وتحترق الأرض والمصنوعات التي فيها 2 بطرس 3: 2- 14، والكون كله بسمواته وأرضه قائم بأمر الله كن منذ بدء الخلق: السماوات كانت منذ القديم والأرض بكلمة الله قائمة 2 بطرس 3: 2- 14، فيرجع الكون كله إلى نفس هيئته الأولى وإن تباينت اليوم الأشكال وبنفس مقدار مادة البناء الأساسية ذات السرعة المقدرة الواحدة التي لا تتجاوزها قوة وإن كانت هائلة لأن كل شيء وجد بأمر واحد هو كلمة الله القدير كن، ووحدة السرعة الحدية للانتقال في الكون وثباتها مظهر في الكتاب للتقدير وسرمدية الخالق ووحدانيته لذا قال: من قبل أن توجد الجبال أو أبدأت الأرض والمسكونة منذ الأزل إلى الأبد أنت الله.. لأن ألف سنة في عينيك مثل يوم؛ وإن بالغ الكاتب فنقض ثبات التقدير بقوله: لأن ألف سنة في عينيك مثل يوم أمس بعدما عبر وكهزيع من الليل المزامير 90: 2- 4، وفي الكتاب أمر الله قد أتى وقوى الدمار تقترب مسرعة: ولولوا لأن يوم الرب قريب قادم كخراب من القادر على كل شيء إِشَعْيَاء 13: 6، ليرتعد جميع سكان الأرض لأن يوم الرب قادم يوئيل 2: 1، كلص في الليل هكذا يجيء لأنه حينما يقولون سلام وأمان حينئذ يفاجئهم هلاك بغتةً كالمخاض للحبلى فلا ينجون تسالونيكي 5: 2و3، قريب يوم الرب العظيم قريب وسريع جدا صفنيا 1: 14.

.(10) أصالة القرآن وتكميل ما سبق:

التعبير {مما تعدون} الذي تفرد به القرآن هو مفتاح القياس، وهو يجعل حركة القمر حول الأرض كمقياس للمسافة في نظام معزول ويقيم معادلة ثابتة تؤيد وحدة الأجرام في الأصل والنظام، وثبات التقدير في القرآن وتفرده بتكميل العلاقة يدفع شبهة النقل عما سبق، ألهذا قال النبي عيسى عليه السلام يوما ما لأتباعه: إن لي أمورا كثيرة أيضا لأقول لكم ولكن لا تستطيعون أن تحتملوا الآن وأما متى جاء ذاك روح الحق فهو يرشدكم إلى جميع الحق لأنه لا يتكلم من نفسه بل بكل ما يسمع يتكلم به ويخبركم بأمور آتية ذاك يمجدني لأنه يأخذ مما لي ويخبركم يوحنا 16: 12- 15، وقال لقومه: أما قرأتم قط في الكتب الحجر الذي رفضه البناءون هو قد صار رأس الزاوية من قبل الرب كان هذا وهو عجيب في أعيننا لذلك أقول لكم إن ملكوت الله ينزع منكم ويعطى لأمة تعمل أثماره ومن سقط على هذا الحجر يترضض ومن سقط هو عليه يسحقه! متى 21: 42- 44، ولا تبعد تلك الغلبة والتكميل وجمع ميراث النبوات في وصف النبي عيسى عليه السلام للنبوة بعده التي يكتمل بها البناء عن غلبة القرآن والتكميل وجمع ميراث النبوات في قوله تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقّ مُصَدّقًا لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} المائدة 48.

.تفسير الآية رقم (18):

قوله تعالى: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (18)}.

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما فرغ من المثل كشف المراد بظلماتهم بأنها ما في آذانهم من الثقل المانع من الانتفاع بالسماع، وما في ألسنتهم من الخرس عن كلام الخير الناشئ عن عدم الإدراك الناشئ عن عمى البصائر وفساد الضمائر والسرائر، وما على أبصارهم من الغشاوة المانعة من الاعتبار وعلى بصائرهم من الأغطية المنافية للادّكار فقال: {صم} أي عن السماع النافع {بكم} عن النطق المفيد لأن قلوبهم مختوم عليها فلا ينبعث منها خير تقذفه إلى الألسنة {عمي} في البصر والبصيرة عن الإبصار المرشد لما تقدم من الختم على مشاعرهم، ولما كان في مقام إجابة الداعي إلى الإيمان قدم السمع لأنه العمدة في ذلك، وثنى بالقول لأنه يمكن الأصم الإفصاح عن المراد، وختم بالبصر لإمكان الاهتداء به بالإشارة؛ وكذا ما يأتي في هذه السورة سواء بخلاف ما في الإسراء، {فهم} أي فتسبب عن ذلك أنهم {لا} ولما كان المراد التعميم في كل رجوع لم يذكر المرجوع عنه فقال: {يرجعون} أي عن طغيانهم وضلالهم إلى الهدى الذي باعوه ولا إلى حالهم الذي كانوا عليه ولا ينتقلون عن حالهم هذا أصلًا، لأنهم كمن هذا حاله، ومن هذا حاله لا يقدر على مفارقة موضعه بتقدم ولا تأخر. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال السمرقندي:

وتفسير الآية أنهم يتصاممون، حيث لم يسمعوا الحق ولم يتكلموا به، ولم يبصروا العبرة والهدى، فكأنهم صم بكم عمي، ولأن الله تعالى خلق السمع والبصر واللسان لينتفعوا بهذه الأشياء، فإذا لم ينتفعوا بالسمع والبصر صار كأن السمع والبصر لم يكن لهم.
كما أن الله تعالى سمى الكفرة موتى حيث قال تعالى: {أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فأحييناه وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ في الناس كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظلمات لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ للكافرين مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 122] يعني كافرًا فهديناه؛ وإنما سماهم موتى والله أعلم لأنه لا منفعة لهم في حياتهم، فكأن تلك الحياة لم تكن لهم، فكذلك السمع والبصر واللسان، إذا لم ينتفعوا بها فكأنها لم تكن لهم، فكأنهم صم بكم عمي فهم لا يرجعون، يعني لا يرجعون إلى الهدى. اهـ.

.قال الماوردي:

قوله تعالى: {صَمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ} وهذا جمع: أصم، وأبكم، وأعمى، وأصل الصَّمَمُ الإنسداد، يقال قناة صماء، إذا لم تكن مجوفة، وصممت القارورة، إذا سددتها، فالأصم: من انسدَّتْ خروق مسامعه.
أما البَكَمُ، ففيه أربعة أقاويل:
أحدها: أنه آفة في اللسان، لا يتمكن معها من أن يعتمد على مواضع الحروف.
والثاني: أنه الذي يولد أخرس.
والثالث: أنه المسلوب الفؤاد، الذي لا يعي شيئًا ولا يفهمه.
والرابع: أنه الذي يجمع بين الخَرَس وذهاب الفؤاد.
ومعنى الكلام، أنهم صمٌّ عن استماع الحق، بكم عن التكلم به، عُمْيٌ عن الإبصار له، رَوَى ذلك قتادة، {فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ} يعني إلى الإسلام. اهـ.

.قال ابن عطية:

والأصم الذي لا يسمع، والأبكم الذي لا ينطق ولا يفهم، فإذا فهم فهو الأخرس، وقيل الأبكم والأخرس واحد، ووصفهم بهذه الصفات إذ أعمالهم من الخطأ وقلة الإجابة كأعمال من هذه صفته، وصم رفع على خبر ابتداء فإما أن يكون ذلك على تقدير تكرار أولئك، وإما على إضمار هم.
وقرأ عبد الله بن مسعود وحفصة أم المؤمنين رضي الله عنهما.
{صمًا} {بكمًا} {عميًا} بالنصب، ونصبه على الحال من الضمير في {مهتدين} وقيل هو نصب على الذم، وفيه ضعف، وأما من جعل الضمير في {نورهم} للمنافقين لا للمستوقدين فنصب هذه الصفات على قوله على الحال من الضمير في {تركهم}.
قال بعض المفسرين قوله تعالى: {فهم لا يرجعون} إخبار منه تعالى أنهم لا يؤمنون بوجه.
قال القاضي أبو محمد: وإنما كان يصح هذا إن لو كانت الآية في معينين، وقال غيره: معناه {فهم لا يرجعون} ما داموا على الحال التي وصفهم بها، وهذا هو الصحيح، لأن الآية لم تعين، وكلهم معرض للرجوع مدعو إليه. اهـ.

.قال ابن الجوزي:

قوله تعالى: {صمٌ بكمٌ عمي}.
الصمم انسداد منافذ السمع، وهو أشد من الطرش.
وفي البكم ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه الخرس، قاله مقاتل، وأبو عبيد، وابن فارس.
والثاني: أنه عيب في اللسان لا يتمكن معه من النطق، وقيل: إن الخرس يحدث عنه.
والثالث: أنه عيب في الفؤاد يمنعه أن يعي شيئًا فيفهمه، فيجمع بين الفساد في محل الفهم ومحل النطق، ذكر هذين القولين شيخنا.
قوله تعالى: {فهمْ لا يَرجِعُونَ}.
فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: لا يرجعون عن ضلالتهم، قاله قتادة ومقاتل.
والثاني: لا يرجعون إِلى الإسلام، قاله السدي.
والثالث: لا يرجعون عن الصمم والبكم والعمى، وإنما أضاف الرجوع إليهم، لأنهم انصرفوا باختيارهم، لغلبة أهوائهم عن تصفح الهدى بآلات التصفح، ولم يكن بهم صمم ولا بكم حقيقة، ولكنهم لما التفتوا عن سماع الحق والنطق به؛ كانوا كالصمم البكم.
والعرب تسمي المعرض عن الشيء: أعمى، والملتفت عن سماعه: أصم، قال مسكين الدارمي:
ما ضرَّ جاراَ لي أجاوره ** ألا يكون لبابه ستر

أعمى إذا ما جارتي خرجت ** حتى يواري جارتي الخدر

وتصمُّ عما بينهم أذني ** حتى يكون كأنه وقر

وقال في الكشاف:
كانت حواسهم سليمة ولكن لما سدّوا عن الإصاخة إلى الحق مسامعهم، وأبوا أن ينطقوا به ألسنتهم، وأن ينظروا ويتبصروا بعيونهم جعلوا كأنما أيفت مشاعرهم وانتقضت بناها التي بنيت عليها للإحساس والإدراك كقوله:
صُم إذا سَمِعُوا خَيْرًا ذُكِرْتُ بِه ** وإنْ ذُكِرْتُ بُسوءٍ عِنْدَهُمْ أَذِنُوا

أَصَمُّ عَمَّا سَاءَهُ سَمِيع ** أصَمُّ عَنِ الشَّيْءِ الَّذِي لا أرِيدُهُ

وأسمع خلق الله حين أريد ف ** أصَممت عمرًا وأعميته

عَنِ الجُودِ والفَخْرِ يَوْمَ الفَخَار

فإن قلت: كيف طريقته عند علماء البيان؟
قلت: طريقة قولهم هم ليوث للشجعان، وبحور للأسخياء.
إلا أنّ هذا في الصفات، وذاك في الأسماء، وقد جاءت الاستعارة في الأسماء والصفات والأفعال جميعًا.
تقول: رأيت ليوثًا، ولقيت صمًا عن الخير، ودجا الإسلام، وأضاء الحق.
فإن قلت: هل يسمى ما في الآية استعارة؟
قلت: مختلف فيه.
والمحققون على تسميته تشبيهًا بليغًا لا استعارة؛ لأنّ المستعار له مذكور وهم المنافقون.
والاستعارة إنما تطلق حيث يطوى ذكر المستعار له، ويجعل الكلام خلوًا عنه صالحًا لأن يراد به المنقول عنه والمنقول إليه، لولا دلالة الحال أو فحوى الكلام، كقول زهير:
لَدَى أَسَدٍ شَاكِي السِّلاَحِ مُقَذَّفٍ ** لَهُ لِبَدٌ أَظْفَارُهُ لَمْ تُقَلَّمِ

ومن ثم ترى المفلقين السحرة منهم كأنهم يتناسون التشبيه ويضربون عن توهمه صفحًا.
قال أبو تمام:
ويُصْعِدُ حتَّي يَظُنَّ الجَهُولُ ** بأَنَّ لهُ حَاجَةً في السَّمَاءْ

وبعضهم:
لا تَحْسَبُوا أَنَّ في سِرْبَالِهِ رَجُلًا ** ففِيهِ غَيْثٌ وَلَيْثٌ مُسْبِلٌ مُشْبِل

وليس لقائل أن يقول: طوى ذكرهم عن الجملة بحذف المبتدأ فأتسلق بذلك إلى تسميته استعارة لأنه في حكم المنطوق به، نظيره قول من يخاطب الحجاج:
أَسَدٌ عَلَيَّ وفي الحُرُوبِ نَعَامَةٌ ** فَتْخاءُ تَنْفُرُ مِنْ صَفِيرِ الصَّافِرِ

ومعنى {لاَ يَرْجِعُونَ} أنهم لا يعودون إلى الهدى بعد أن باعوه، أو عن الضلالة بعد أن اشتروها، تسجيلًا عليهم بالطبع، أو أراد أنهم بمنزلة المتحيرين الذين بقوا جامدين في مكانهم لا يبرحون، ولا يدرون أيتقدّمون أم يتأخرون؟
وكيف يرجعون إلى حيث ابتدءوا منه؟. اهـ.